« اليوسفية « الحركة الاستقلالية في المغرب العربي
د. سالم لبيض – باحث
صالح بن يوسف جنوبي الأصل ينتسب إلى جزيرة جربة أين ولد في 11 أكتوبر سنة 1907، وهو سليل عائلة جربية اشتهرت بثرائها نتيجة أملاكها الزراعية وأعمالها التجارية. توزعت مراحل دراسته ما بين الكتّاب والابتدائي بالمدرسة الكائنة بنهج التريبونال بتونس والثانوي بمعهد كارنو أين تحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1930 تاريخ تحوله الى جامعة السوربون الباريسية أين نال الإجازة في الحقوق وشهادة معهد العلوم السياسية سنة 1935
بدأ نشاطه السياسي مبكرا ضمن الطلبة التونسيين بباريس وتم انتخابه رئيسا للشعبة الدستورية سنة 1931. وبعد عودته لتونس قرر العمل ضمن المجموعة التي اختارت الإنشقاق على الحزب الدستوري القديم. وعلى إثر مؤتمر قصر هلال لسنة 1934 تم الإعلان عن تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد.
تعرض بن يوسف للاعتقال أول مرة سنة 1935 نتيجة نشاطه السياسي ونفي الى برج البوف في أقصى الجنوب التونسي. بعد أن أطلق سراحه سنة 1936 أصبح عضوا بالديوان السياسي لجماعة الدستور الجديد على إثر المؤتمر الثاني الذي انعقد سنة 1937، اعتقل من جديد سنة 1938 أي قبل أحداث 9 أفريل وأطلق سراحه سنة 1943. أصبح بن يوسف أمينا عاما للحزب بعد أن تحول بورقيبة ولمدة أربع سنوات للمشرق العربي.
شهدت هذه الفترة انعقاد مؤتمر الحزب سنة 1946 الذي طالب باستقلال تونس التام وقرر بعث المنظمة النقابية التونسية (الاتحاد العام التونسي للشغل) وفي سنة 1950 شارك حكومة شنيق التفاوضية والتي سقطت سنة 1951 اثر صدور مذكرة 15 ديسمبر التي تقر ازدواجية السيادة في تونس. أعلن صالح بن يوسف رفضه باتفاقيات 3 جوان 1955 الاستقلال الداخلي لأنها تكرس حسب رأيه مصالح الإستعمار وترجع بالبلاد إلى الوراء.
اليوسفية ظاهرة سياسية – اجتماعية – تاريخية تعود جذورها الى سنة 1952 تاريخ ظهور المجموعات المسلحة والمؤمنة بضرورة اعتماد نفس الأسلوب الذي تتبعه الإدارة العسكرية الفرنسية وتجسد من خلال تجربة جيش التحرير التونسي الذي أسسه الطاهر الأسود.
اليوسفيون هم حركة التي جرفت وراءها تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية آمنت بالكفاح المسلح الى جانب قطاعات شعبية عريضة». فقد أشار «الشابي» في دراسته إلى أن 374 شعبة أعلنت مقاطعتها للديوان السياسي وأن 350 من بينها قررت الانتماء الى اليوسفية مع الإشارة الى أن الكثير من الشعب اختارت عدم نشر مواقفها حملتها مباشرة الى الأمين العام للحزب. والجامعة الدستورية بتونس التحقت جميع شعبها بالحركة اليوسفية وهي أهم الجامعات على الإطلاق، فقد كانت تعد بمفردها 60.000 منخرط من جملة 350.000 منخرط موزعين على 31 جامعة دستورية. وتقول صحيفة «اليقظة» ذات الانتماء اليوسفي على لسان صالح بن يوسف بأن الشعب الدستورية اليوسفية قد وصل عددها الى 747 شعبة. بقطع النظر عن التضارب أو عدم الدقة في الأرقام واعتبر بورقيبة أن بن يوسف مجرد متمرد عن النظام الأساسي للحزب وتجسدت بطريقة مكثفة في حركة مقاومة مسلحة منظمة فيه يعرف بجيش التحرير الوطني التونسي الذي ترجع قيادته العليا الى صالح بن يوسف أما قيادته المباشرة فتعود الى الطاهر الأسود الذي أصدر في شهر فيفري من سنة 1955 بيانا جاء فيه «إننا نعلن على رؤوس الملأ للشعب التونسي والشعب الفرنسي والعالم بأسره أننا أحدثنا جيشا تحريريا وطنيا تونسيا وأن مهمة هذا الجيش هي تحرير وطننا العزيز من قاذورات الإستعمار وأذنابه». يقول الطاهر عبد الله أنها تسع فرق وهي على التوالي فرقة أولاد عون بقيادة عبد القادر زروق والأخضر القرماسي، فرقة سوق الإربعاء الطيب الزلاق، فرقة زرمدين بالساحل التونسي يقودها عبد اللطيف زهير، فرقة منطقة قفصة بقيادة كل من الحسين الحاجي وعبد الله البوعمراني والهادي لسود وعلي درغال، فرقة تطاوين والحوايا ومطماطة بقيادة الطاهر الأسود قبل أن يصبح قائدا مباشرا لجيش التحرير الوطني، ومحمد قرفة وسعد بعر وأحمد الأزرق، فرقة نفزاوة بقبلي والمرازيق بقيادة «علي بالشعر المرزوقي ومحمد الغيلوفي، فرقة أم العرائس ونفطة وتوزر بقيادة الطاهر الأخضر الغريبي فرقة جبال أم علي بقيادة بلقاسم بن فرج العقوبي وفرقة العاصمة بقيادة رضا بن عمار.
لقد كانت هذه المجموعات تقوم بمقاومة القوات العسكرية الاستعمارية وكانت في نفس الوقت جزءا من حركة مقاومة مسلحة مغاربية تم تأسيسها بدعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر تحت اسم جيش تحرير المغرب العربي الذي يقول عنه الطاهر لسود أن أمانته العامة أسندت لأحمد بن بلة. وقد جاء في رقم 1 الصادر عن هذا الجيش ما يلي «…افتتح جيش التحرير المكون من مجموع الحركات الوطنية الفدائية في جميع اقطار الشمال الافريقي باكورة كفاحه بالعمليات المشتركة الأخيرة والقيداة المشتركة لجيش التحرير التي هي من صفوف المكافحين والمجاهدين والممثلين الحقيقيين لأفراد الحركات الوطنية الفدائية في داخل البلاد…»، وأعلنت هذه القيادة أهدافها كما يلي : «- الكفاح في سبيل الاستقلال التام لأقطار المغرب العربي…- عدم التقيد بأي اتفاقيات عقدت أو تعقد مستقبلا لا تحقق الهدف الأول كاملا،– اعتبار كل من ينادي بخلاف ما ذكر خارجا على ما أجمعت عليه البلاد والحركات الوطنية والفدائية».
اليوسفية ليست ايديولوجيا وإنما هي حركة سياسية ذات هوية مغاربية وذات عمق عروبي وإسلامي، لقد ساعدت هذه العوامل صالح بن يوسف على تجديد شخصيته السياسية بل تغييرها، بعد أن تجسدت في جملة من الظروف الموضوعية لعل أبرزها بروز مصر كقاعدة خلفية للحركات الاستقلالية في البلاد العربية ومن ذلك أحزاب وحركات المقاومة في المغرب العربي، بعد قيام ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، وانعقاد مؤتمر باندونغ بأندونيسيا سنة 1955. أما الظروف الذاتية فتتمثل في انفتاح صالح بن يوسف على هذا المحيط الجديد فلم بعد استقلال تونس منفصلا عن استقلال الجزائر والمغرب، ولامناص للحركة الاستقلالية في المغرب العربي من الاستفادة من الدور الذي أصبحت تلعبه دولة مصر في دعمها لمختلف الحركات التحريرية العربية والافريقية والآسيوية.
البورقيبية هي مواقف وتصريحات وسلوكات الحبيب بورقيبة السياسية. لقد قامت على مرتكزين رئيسيين هما الارتباط الواضح بالغرب الأوروبي من حيث نمط التفكير والنموذج السياسي المحتذى وحتى منظومة القيم. فلم يكن بورقيبة يحمل ولاء لانتمائه المغاربي أو العربي الاسلامي أو يجد حرجا في التصريح بأن ما يرطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية وأن من مصلحة تونس أن ترتبط بالغرب وبفرنسا بصورة أخص، وأن مرسيليا أقرب لنا من بغداد أو دمشق أو القاهرة وأن اجتياز البحر الأبيض المتوسط لأسهل من اجتياز الصحراء الليبية. لم يكن هذا الموقف الصادر عن بورقيبة وليد الصدفة وإنما هو ناتج عن تشبع بقيم الغرب وثقافته وإيمان راسخ بنموذجه السياسي ونتيجة لتكوين بورقيبة التعليمي بالجامعة الفرنسية. وأحسن تحديد لهوية بورقيبة هو ما ذكره أحد الدبلوماسيين الغربيين العارفين بالعالم العربي الإسلامي بقوله : «لم أر رجلا خارج فرنسا أقرب إليها من الرئيس بورقيبة ولم أر في العالم العربي رجلا أقل تشابها مع العرب منه»، ويذهب محمود الذوادي إلى أن بورقيبة قد تولد عنده شعور مبكر بالنقص نتيجة تقدم الغرب وتخلف المجتمعات العربية الاسلامية وهو ما دفعه الى محاولة التخلص من كل ما هو عربي اسلامي باعتباره عائقا في وجه اللحاق بركب الحضارة الغربية المتقدمة.
لا شك أن البورقيبية قد استطاعت أن تحقق للسلطات الاستعمارية الفرنسية ما لم تستطع تحقيقه بنفسها طيلة أكثر من 70 سنة من الاحتلال المباشر لتونس، لقد كان بورقيبة صاحب التنشئة الغربية «ماكيافليا» في طريقة ممارسته للعمل السياسي ولم يتأخر في التحالف مع الإدارة الاستعمارية من أجل تصفية رفاق الأمس، لقد كانت اليوسفية ضحية لهذا التوجه» البرغماتي الماكيافلي البورقيبي – الاستعماري، فقد كان الجيش الفرنسي الذي استأنف عملياته ضد حركة المقاومة المسلحة اليوسفية في أواخر جانفي 1956 يمارس سياسة الأرض المحروقة مستعملا طائرات ف 47 وهو ما أدى الى سقوط 400 شهيد في صفوف المقاومين اليوسفيين في نهاية مارس.
كما تمكنت «لجان اليقظة» البورقيبية من تصفية عدة مجموعات، في سوق الاربعاء بقيادة الطيب الزلاق والطاهر البخاري وفي الجنوب التونسي بقيادة ناصر بن مسعود الوصيف وأحمد الأزرق بجهة تطاوين، كما تعرضت عدة مجموعات للإعدام شنقا بعد محاكمات صورية. وتمثل عملية اغتيال «صالح بن يوسف» يوم 11 أوت من سنة 1961 بفرنكفورت تجسيما عمليا مكثفا، وقد كان ذلك بداية لمرحلة جديدة من الشخصنة والإقصاء فبالرغم مما يوصف به بورقيبة من تشبع بالأفكار الغربية الليبرالية، اختار منهج رفض الآخر وعدم التفاعد معه بعد أن منع أي تعدد سياسي بداية من سنة 1963، ومن المفارقات أن التعديدية السياسية التي شهدتها تونس سنة 1981 رغم شكليتها كانت نتيجة لفعل المجموعات اليوسفية التي نفذت العملية المعروفة باسم «عملية قفصة» لسنة 1980.
يمكن القول أن الخلاف اليوسفي البورقيبي لم يكن مجرد خلاف شخصي بين زعيمين، فهو أعمق من ذلك بكثير فجوهر هذا الخلاف هي مسألة الهوية لكن سرعان ما تحول الى صراع سياسي تقف وراءه قوة السلاح. والهوية لا تخضع لاختيار الاشخاص أو أمزجتهم لذلك اختارت غالبية الشعب التونسي الانضمام الى بن يوسف لأن مسألة الهوية لا تدخل مجال المساومات. لقد انتصر بورقيبة سياسيا لكن الهوية العربية – الاسلامية انهزمت وتم طمسها في تونس طيلة فترة حكمه.
Laisser un commentaire